cont-ents.com
أكتوبر 19, 2024
السيادة الغذائية … نحو نظام غذائى آمن ومستدام
“ويل لأمة تأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تنسج
إنها يومئذ أمة عقيمة لا صوت لها ولا رأى ولا وجود”
“جبران خليل جبران”
■ مفهوم الأمن الغذائى :
الغذاء حق إنسانى أساسى لكل البشر ولكل فرد الحق فى الوصول إلى غذاء آمن ومستدام ، فهدف أية سياسة زراعية وطنية داخل أى مجتمع ينبغى أن يكون الاكتفاء الذاتى غذائياً ، بمعنى أن مزارعى ذلك المجتمع يجب أن ينتجوا الغذاء المستهلك محلياً ، وهو ما يتقاطع مع مفهوم ” الأمن الغذائي ” الذى صاغته الدول الإحتكارية ومؤسسات التمويل الدولية ذى النزعة الإمبريالية عبر برنامج الأمم المتحدة الإنمائى فى تقريره حول التنمية البشرية لعام ١٩٩٤ حيث عرف الأمن الغذائى” بأن يكون لدى جميع الناس فى جميع الأوقات إمكانية الحصول مادياً وإقتصادياً على الغذاء الأساسى بالإنتاج أو الاستيراد ” .
فالمفهوم بصبغته النيوليبرالية يميل بدوره إلى تسليع كل الأشياء بما فيها الغذاء ويدعو إلى حرية النفاذ إلى الأسواق وبالتالي يمكن أن يؤدى إلى تقليص سيادة الدول .
■ مصر والإندماج فى إقتصاد السوق :
بحلول التسعينات كانت “مصر” قد تخلت عن نموذجها التنموى المعتمد على الذات حيث كان البيت الفلاحى المصرى عبارة عن مفرخة لإنتاج الخبز والغذاء الملائم صحياً وبيئياً ، وما لبث أن قامت المؤسسسات المالية بإيعاز للحكومات المصرية المتعاقبة وخاصة فى عهد مبارك بإلغاء الدورة الزراعية والتخلى عن التركيب المحصولى فضلاً عن إصدار مجلس الشعب المصرى قانون ٩٦ لسنة ١٩٩٢ بتعديل بعض أحكام قانون ١٧٨ لسنة ١٩٥٢ والذى عرف بتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر ، ما عرف آنذاك بسياسات التحرير الإقتصادى والتكيف الهيكلى ، مما تسبب فى فقد ما يقرب من مليون عائلة أراضى كانوا يتمتعون فيها حتى صدور القانون بحيازة آمنة حيث كان غالبيتهم من صغار الفلاحين ، وبفقدانهم للأرض فقدوا مصدر رزقهم وأمنهم الغذائى .
■ أرقام ترسم صورة قاتمة :
ولعل ما عكسه تقرير الأمم المتحدة الصادر مؤخراً عام ٢٠٢١ عن حالة الأمن الغذائي والتغذية يظهر إنتكاسة جهود العالم للقضاء على الجوع وانعدام الأمن الغذائى وسوء التغذية بجميع أشكاله بحلول عام ٢٠٣٠ ، فعدد الأشخاص الذين يعانون الجوع فى العالم قد إرتفع إلى حوالى ٨٢٨ مليون شخص فى عام ٢٠٢١ بنسبة ٩.٨% من سكان العالم أى بزيادة قدرها نحو ٤٦ مليون شخص إضافى مقارنة بعام ٢٠٢٠ بنسبة ٩.٣% و١٥٠ مليون شخص إضافى مقارنة بعام ٢٠١٩ بنسبة ٨% من سكان العالم .
وبحسب تقرير أممى صادر عن الأمم المتحدة ٢٠٢٣ فإن ١٤٨ مليون طفل دون سن الخامسة يعانون من التقزم و٤٥ مليون الهزال فيما يعانى ٣٧ مليوناً آخرين من زيادة الوزن بسبب تدنى جودة التغذية .
فضلاً عن الإختلالات التى أحدثتها الحرب الروسية الأوكرانية فى سلاسل إمدادات الغذاء الدولية والذى تسبب بارتفاع أسعار الحبوب والأسمدة والطاقة لا سيما ما تعانيه سلاسل الإمداد بالفعل من تزايد وتيرة الظواهر المناخية المتطرفة فى دول الجنوب ما قد تترتب عنه تداعيات شديدة الخطورة على الأمن الغذائى والتغذية فى العالم .
فكل الدراسات والإحصاءات الدولية المنشورة تبين أن عدد الجوعى وناقصى التغذية قد إزدادوا فى العقد الأخير على الرغم من أن غذاءاً كافياً قد أنتج عالمياً لإشباع حاجات سكان العالم ، فالجوع ونقص الغذاء ليس بسبب عجز أو ندرة الغذاء بل هو قضية الوصول إلى الغذاء ، الدخل المناسب ، الموارد الإنتاجية التى تسمح للسكان الفقراء إما إلى إنتاج أو شراء الغذاء ، فالتوزيع غير العادل للغذاء والأراضى والموارد الإنتاجية الأخرى هى الأسباب الرئيسية للجوع ونقص التغذية .
■ إنتقادات ضد مفهوم الأمن الغذائى :
فباعتباره النموذج المهيمن على العلاقة بين السكان والغذاء فقد تعرض مفهوم “الأمن الغذائى” إلى عدة إنتقادات منها أن هذا المفهوم كما هو مستعمل من قبل “منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة ” fAo ،
يعمل ضمن المنطق الموجود لنظام الغذاء والسوق اليوم الذى تفرضه المنظمات الدولية الرأسمالية مثل “منظمة التجارة العالمية” wTo والذى تم طرحه وفرضه من القمة إلى القاعدة ولم يساهم فى صياغته العاملون فى القطاع الزراعى لا سيما صغار المزارعين مما يعنى أنه يأخذ بعين الإعتبار مصالح كبار المزارعين وقدرتهم على إنتاج الغذاء بكميات تسد حاجات سكان العالم المتزايدين وهذا يقودنا إلى إنتقاد آخر يتمثل فى كون مفهوم الأمن الغذائى المستعمل حالياً يبقى غامضاً فى موضوعات أساسية مثل الإستدامة والعدالة الغذائية أى أنه لم يأخذ فى الإعتبار كيف يتم إنتاج الغذاء ومن هم منتجوه وكيف يتم توزيعه .
■ مفهوم “السيادة الغذائية” :
وكرد فعل على عجز مفهوم “الأمن الغذائى” فى إحتواء الجوع والأزمات الغذائية ظهر مفهوم “السيادة الغذائية” فى دول أمريكا اللاتينية كنقيض له وتطور بفضل نضال الحركة الإجتماعية “lavia campesina ” حيث أدخل عالمياً لأول مرة فى قمة الغذاء العالمية ١٩٩٦ والتى عرفت السيادة الغذائية بأنها ” حق الشعوب والمجتمعات والدول فى تحديد سياساتهم الزراعية والعمل وصيد الأسماك والغذاء والأرض التى تكون مناسبة أيكولوجياً وإجتماعياً وإقتصادياً وثقافياً لظروفها الخاصة “.
■ إنهاء عولمة الجوع :
يسعى نموذج “السيادة الغذائية” إلى إزالة الفقر من جذوره بإشراك العاملين فى قطاع الزراعة لا سيما صغار المزارعين فى صياغة السياسات الزراعية وتقديم سعر معقول للمزارعين فى تسويق منتجهم المحلى والشروع فى صياغة قواعد تجارة عادلة ومرنة ومتنوعة والعمل على إستعادة الأصول الوراثية للبذور من كونها تراث مشاع للإنسانية يبقى فى حراسة الثقافات والمجتمعات الريفية فلا تراخيص على الحياة .
فالسيادة الغذائية ضرورة من أجل تحسين حوكمة الغذاء والزراعة ومواجهة مشاكل الجوع والفقر بطرق جديدة ، فالمعركة من أجل السيادة الغذائية هى معركة حول حياة وموت مليارات البشر ، معركة من أجل الديموقراطية وصيانة البيئة للأجيال القادمة .